ألا ليت أيام الصفاء جديـــــــــــــد ** ودهرا تولى يا بثين يعودفنغنى كما كنا نكون، وأنتـــــــم ** صديق، وإذ ما تبذلين زهيدوما أنس من الأشياء لا أنس قولـها ** وقد قربت نضوى: أمصر تريد ؟ولا قولها: لولا العيون التي تــرى ** أتيتك فاعذرني فدتك جدودعلقت الهوى منها وليدا فلم يـــزل ** إلى اليوم ينمى حبها ويزيدفلو تكشف الأحشاء صودف تحتها ** لبثينة حب طارف وتليدألا ليت شعري هل أبيتن ليلـــــــة ** بوادي القرى إني إذن لسعيدوهل ألقين سعدي من الدهر مــرة ** ومارث من حبل الصفاء جديدوقد تلتقى الأهواء من بعد يأســة ** وقد تطلب الحاجات وهي بعيدولكن القدر أبى أن تلتقي الأهواء بعد يأس، أو أن تدرك الحاجات البعيدة، فلم تطل أيام جميل بمصر، فقد أخذ النور يخبو، ثم انطفأ السراج، وودع جميل الحياة بعيداً عن بثينة التي أفنى شبابه في طلبها، بعيداً عن أرض عذرة التي شهدت أيامهما السعيدة وأيامهما الشقية، بعيدا عن وادي القرى الذي كان يتمنى أن يعود إليه ليبيت فيه ليلة تكتمل له فيها سعادته.يقول جميل مصورا أحزانه الطاحنة التي تحطم نفسه تحطيما حتى ليوشك أن ينهار تحت وطأتها:وما ذكرتك النـــفس يـــــا بثــيــن مـــــــــــرة ** من الدهر إلا كادت النفس تتلفوإلا علتني عبرة واســــــتكـــانـــة وفــــاض ** لها جار من الدمع يذرفتعلقتها، والنفس مني صــــحيـــحة فـــمــــــا ** زال ينمى حب جمل وتضعفإلى اليوم حتى سل جسمي وشفني وأنكرت ** من نفسي الذي كانت أعرفوفي ظل هذا الصراع الحاد بين اليأس والأمل، وفي ظل هذه المحاولات السلبية للسلو والنسيان عاش العذريون مخلصين لمحبوباتهم.
لقد وهب كل منهم حياته لواحدة أخلص لها حبه ولم يشرك به حبا آخر، لا يعدوها إلى غيرها، ولا يصرف هواه إلى سواها، ولا ينقل فؤاده حيث شاء من الهوى، وإنما يعيش حياته على ما فيها من حرمان وأحزان ، فقد ارتبطت حياته بها، وأصبح كل شئ فيها ملكاً لها، واستحالت أيامه ولياليه ذكرياتا وأحلاما استقرت في شعروه وفي لا شعوره فهو يعيش بها ولها وعليها، ولم يعد في قلبه متسع لمحبوبة أخرى بعد أن ثبت حبها فيه كما ثبتت فى الراحتين الأصابع.وبلغ نعيه بثينة بعد حين، فسقطت مغشيا عليها، حتى إذا ما أفاقت أنشدت هذين البيتين اللذين تعاهد فيهما نفسها على الوفاء لعهده والإخلاص لذكراه، واللذين أودعت فيهما كل ما تفيض به نفسها مرارة ويأسا بعده :
]وإن سلوى عن جميل لساعـة ** من الدهر ما حانت ولا حان حينها
]سواء علينا يا جميل بن معمر ** إذا مت بأساء الحياة ولينها
وتمر الأيام عليها بعد ذلك حزينة باكية، وتتوالى الليالي طويلة ثقيلة موحشة، تستعيد فيها ذكريات حبها البعيدة، وتسترجع ما مر بها
في ماضيها السعيد الذي طوته رمال عذرة إلى الأبد.
ويأخذ النور يخبو، ثم ينطفئ السراج، وتودع بثينة الحياة بعيدة عن جميل الذي وهبته حبها وإخلاصها، بعيدة عن أرض عذرة
ووادي القرى ووادي بغيض حيث خط طفل الحب أول سطر في كتاب حبهما الخالد.
كانت النهاية المحتومة التي لا مفر منها، إنه الموت.
ودع العاشق حياته على أمل في أن يجمع الله بينه وبين صاحبته بعد الموت، عسى أن يتحقق له فى العالم الخالد ما لم يتحقق له في
العالم الفاني.
أمنية تمناها كل عاشق عذري، وأغمض عينيه عليها.
أمنية تمناها جميل كما تمناها عروة بن حزام قبل حيث يقول :
وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني ** وعفراء يوم الحشر ملتقيان
فيا ليت محيانا جميعا، وليتــــــنا ** إذا نحن متنا ضمنا كفنان
أما جميل فيقول جميل:
أعوذ بك اللهم أن تشحط النوى ** ببثينة في أدنى حياتي ولا حشري
وجاور إذا ما مت بيني وبينـــها ** فيا حبذا موتي إذا جاورت قبري
ويقول أيضا:
ألا ليتنا نحيا جميعا، وإن نمت ** يواف ضريحي في الممات ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب ** إذا قيل قد سوى عليها صفيحها
وبهذه الأبيات نسدل الستار على مأساة أخرى من مآسي الحب العذري الحزينة
لم تنتهى انبل واطهر قصص حب سجلها التاريخ لدى العرب بل هناك المزيد منها سوف نكملة الموضوع القادم
عازف الكماان